فصل: تفسير الآيات رقم (80- 81)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق‏}‏ المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس‏:‏ معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أخرجني من مكة آمناً من المشركين، وأدخلني مكة ظاهراً عليها بالفتح، وقيل‏:‏ أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل‏:‏ معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل‏:‏ معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمناً عند الله ‏{‏واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً‏}‏ أي حجة بينة وقيل‏:‏ ملكاً قوياً تنصرني به على من عاداني وعزاً ظاهراً أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس، وقال يظهره على الدين كله وقال‏:‏ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وقل جاء الحق‏}‏ يعني الإسلام والقرآن ‏{‏وزهق الباطل‏}‏ أي الشرك والشيطان ‏{‏إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ أي مضمحلاً غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها يعود في يده ويقول‏:‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء‏}‏ من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس والمعنى‏:‏ ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة الجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها‏.‏ وقيل‏:‏ هو شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع‏.‏ وأما النوع الثاني‏:‏ وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض‏.‏ يدل عليه ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب، «وما يدريك أنها رقية» ‏{‏ورحمة للمؤمنين‏}‏ لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين ‏{‏ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخساراً للظالمين، وقيل‏:‏ لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة‏:‏ لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏.‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان‏}‏ أي بالصحة والسعة ‏{‏أعرض‏}‏ أي عن ذكرنا ودعائنا ‏{‏ونأى بجانبه‏}‏ أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل‏:‏ معناه تكبر وتعظيم ‏{‏وإذ مسه الشر‏}‏ إي الشدة والضر ‏{‏كان‏}‏ أي يائساً قنوطاً، وقيل‏:‏ معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏قل كل‏}‏ أي كل أحد ‏{‏يعمل على شاكلته‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ على ناحيته‏.‏ وقيل‏:‏ الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة ‏{‏فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً‏}‏ أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً واتباعاً للحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكاً على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض‏:‏ سلوه عن الروح‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه، وفي رواية، فقام إليه رجل منهم فقال‏:‏ يا ابا القاسم ما الروح‏؟‏ فسكت وفي رواية، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر الوحي، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال‏:‏ ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر بي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ قد قلنا لكم لا تسألوه‏.‏ وفي رواية وما أتوا من العلم إلا قليلاً‏.‏ قال الأعمش هكذا في قراءتنا‏.‏ العسيب‏:‏ جريد النخل وسعفه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن قريشاً اجتمعوا وقالوا إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أخبركم بما سألتم غداً، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي‏.‏ قال مجاهد‏:‏ اثني عشر يوماً وقيل‏:‏ خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون‏:‏ قد وعدنا محمداً غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله‏}‏ ونزل في الفتية ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً‏}‏ نزل فيم بلغ المشرق والمغرب، قوله ‏{‏ويسألونك عن ذي القرنين‏}‏ ونزل في الروح ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي‏}‏ واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعن ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام‏.‏ وقال سعيد بن جبير لم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره‏.‏

وقيل‏:‏ الروح هو القرآن لأن الله سماه روحاً ولأن به حياة القلوب‏.‏ وقيل‏:‏ هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال‏.‏ وتكلم قوم في ما هية الروح فقال بعضهم‏:‏ هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو عرض‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو جسم لطيف يحيا به الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ الروح معنى اجتمع فيه النور الطيب والعلم والعلو والبقاء، إلا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل‏.‏ وأقاويل الحكماء والصوفية في ما هية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل هو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة‏:‏ إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله‏:‏ قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به ‏{‏وما أوتيتم من العلم‏}‏ من علم ربي ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون‏:‏ أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم‏:‏ إن علم التوراة قليل في جنب علم الله‏.‏ وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته وقيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علماً لنبوته‏.‏ والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏}‏ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ‏{‏ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً‏}‏ معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظاً مستوراً ‏{‏إلا رحمة من ربك‏}‏ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك وقيل هو على الاستثناء المنقطع‏.‏ معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل‏؟‏ قلت‏:‏ المراد منه محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ «اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل‏:‏ هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال‏:‏ يسرى عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً، ولا يجدون مما في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل‏.‏

له دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب‏:‏ ما لك‏؟‏ فيقول‏:‏ يارب أُتلى ولا يُعمل بي «‏{‏إن فضله كان عليك كبيراً‏}‏ أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتو بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله‏}‏ أي لا يقدرون على ذلك ‏{‏ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏}‏ أي عوناً‏.‏ نزلت حين قال المشركون‏:‏ لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيره ‏{‏فإبى أكثر الناس إلا كفوراً‏}‏ أي جحوداً‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ أي لن نصدقك ‏{‏حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا‏:‏ لن نؤمن لك‏.‏ روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبهاً أبني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ابعثوا إليّ محمداً فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا‏:‏ «يا محمد إن بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك‏.‏ لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، ما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى أكثرنا مالاً وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن ترده عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا‏:‏ يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكاً يصدقك، وسله أن يجعل لك جنات وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال‏:‏ ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً‏.‏ قالوا‏:‏ فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل‏.‏ فقال‏:‏ ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم»

وقال قائل منهم‏:‏ لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبدالله بن أبي أمية، هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفهسم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فوالله ما أؤمن لك أبداً حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك‏.‏ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً من مباعدتهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض‏}‏ يعني أرض مكة ‏{‏ينبوعاً‏}‏ أي عيوناً أو ‏{‏أو تكون لك جنة من نخيل وعنب‏}‏ أي بستان فيه نخيل وعنب ‏{‏فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏}‏ أي تشقيقاً ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ أي قطعاً ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كفيلاً أي يكفلون بما تقول‏.‏ وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول‏.‏ وقيل‏:‏ معناه تراهم مقابلة عياناً ‏{‏أو يكون لك بيت من زخرف‏}‏ أي من ذهب وأصله الزينة ‏{‏أو ترقى‏}‏ أي تصعد ‏{‏في السماء ولن نؤمن لرقيك‏}‏ أي لأجل رقيك ‏{‏حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد ‏{‏سبحان ربي‏}‏ أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب ‏{‏هل كنت إلا بشراً رسولاً‏}‏ أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعلن ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طرق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتينن ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 97‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى‏}‏ أي الحي‏.‏ والمعنى‏:‏ وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم هي إنكارهم أن يرسل الله البشر وهو قوله تعالى ‏{‏إلا أن قالوا‏}‏ أي جهلاً منهم ‏{‏أبعث الله بشراً رسولاً‏}‏ وذلك أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكاً فأجابهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين‏}‏ أي مستوطنين مقيمين فيها ‏{‏لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً‏}‏ أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم‏}‏ أي على أني رسوله إليكم وإني قد بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم ‏{‏إنه كان بعباده‏}‏ يعني المنذرين والمنذرين ‏{‏خبيراً بصيراً‏}‏ أي عالماً بأحوالهم، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد الكفار ‏{‏ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه‏}‏ أي يهدونهم وفيه أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ «عن أنس أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله‏:‏ صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة‏؟‏ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا» وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم‏.‏ قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال‏:‏ إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض ‏{‏عمياً وبكماً وصماً‏}‏ أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى ‏{‏ورأى المجرمون النار‏}‏ وقال ‏{‏دعوا هنالك ثبوراً‏}‏ وقال ‏{‏سمعوا لها تغيظاً وزفيراً‏}‏ فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع‏.‏ قلت فيه أوجه‏:‏ أحدهما قال ابن عباس معناه عمياً لا يبصرون ما يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة صماً لا يسمعون ما يسرهم‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ قيل معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى‏:‏ ثم تعاد إليهم هذه الأشياء‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عمياً وبكماً وصماً لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ‏{‏مأواهم جهنم كلما خبت‏}‏ اي سكن لهيبها‏.‏ وقيل‏:‏ ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو ‏{‏زدناهم سعيراً‏}‏ أي وقوداً وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه، وزيد في سعير النار لتحرقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 101‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا‏}‏ لما ذكر الوعيد المتقدم قال‏:‏ ذلك جزاؤهم بما كفروا يعني ذلك العذاب جزاؤهم بسبب كفرهم بآياتنا ‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ أجابهم الله ورد عليهم بقوله ‏{‏أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ أي في عظمها وشدتها ‏{‏قادر على أن يخلق مثلهم‏}‏ أي في صغرهم وضعفهم ‏{‏وجعل لهم أجلاً‏}‏ أي وقتاً لعذابهم ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت، وقيل يوم القيامة ‏{‏فأبى الظالمون إلا كفوراً‏}‏ أي جحوداً وعناداً ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي‏}‏ أي خزائن نعمه ورزقه وقيل‏:‏ إن خزائن الله غير متناهية‏.‏ والمعنى‏:‏ لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها ‏{‏إذاً لأمسكتم‏}‏ أي لبخلتم وحبستم ‏{‏خشية الإنفاق‏}‏ والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ‏{‏وكان الإنسان قتوراً‏}‏ أي ممسكاً بخيلاً‏.‏ فان قلت‏:‏ قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم، فكيف وصفه بالبخل‏؟‏ قلت‏:‏ الأصل في الإنسان البخل، لأن خلق محتاجاً والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات‏}‏ أي دلالات واضحات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه، فحلها وفلق البحر والطوفان والجواد والقمل والضفادع والدم وقيل عرض فلق البحر، واليد والسنون نقص من الثمرات وقيل‏:‏ الطمس والبحر بدل السنين والنقص‏.‏ قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز، وقد صارت حجراً وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر‏:‏ هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه‏.‏ فإذا فيه بيض مكسر نصفين، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة‏.‏ وقيل‏:‏ التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهودياً قال لصاحبه‏:‏ تعالى حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر‏:‏ لا تقل نبي‏.‏ فإنه لو سمع صارت له أربع أعين، فأتياه فسألاه عن هذه الآية‏.‏ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال‏:‏ «لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا‏:‏ نشهد إنك نبي قال‏:‏ فما يمنعكم أن تتبعوني» قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود ‏{‏فاسأل‏}‏ يا محمد ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم ‏{‏إذا جاءهم‏}‏ يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل ‏{‏فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مخدوعاً وقيل‏:‏ مطبوباً اي سحروك وقيل معناه ساحراً معطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 104‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏قال‏}‏ موسى ‏{‏لقد علمت‏}‏ خطاباً لفرعون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ علمه فرعون ولكنه عانده ‏{‏ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض‏}‏ يعني الآيات التسع ‏{‏بصائر‏}‏ أي بينات يبصر بها ‏{‏وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ملعوناً‏.‏ وقيل‏:‏ هالكاً‏.‏ وقيل‏:‏ مصروفاً عن الخير ‏{‏فأراد أن يستفزهم من الأرض‏}‏ معناه أراد فرعن أن يخرج موسى وبين إسرائيل من أرض مصر ‏{‏فأغرقناه ومن معه جميعاً‏}‏ أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه ‏{‏وقلنا من بعده‏}‏ أي من بعد هلاك فرعون ‏{‏لنبي إسرائيل اسكنوا الأرض‏}‏ يعني أرض مصر والشام ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ يعني القيامة ‏{‏جئنا بكم لفيفاً‏}‏ أي جميعاً إلى موقف القيامة، واللفيف‏:‏ الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل‏:‏ أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل‏}‏ يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير ‏{‏وما أرسلناك إلا مبشراً‏}‏ يعني بالجنة للمطيعين ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي مخوفاً بالنار للعاصين‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وقرآناً فرقناه‏}‏ أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق الباطل، وقيل‏:‏ معناه أنزلنا نجوماً لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى ‏{‏لتقرأه على الناس على مكث‏}‏ أي على تؤده وترسل في ثلاث وعشرين سنة ‏{‏ونزلناه تنزيلاً‏}‏ أي على حسب الحوادث ‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا‏}‏ فيه وعيد وتهديد ‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قبله‏}‏ قيل‏:‏ هم مؤمنوا أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم ‏{‏إذا يتلى عليهم‏}‏ يعني القرآن ‏{‏يخرون للأذقان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد بها الوجوه ‏{‏سجداً‏}‏ أي يقعون على الوجوه سجداً ‏{‏ويقولون سبحان ربنا‏}‏ أي تعظيماً لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إن كان وعد ربنا لمفعولاً‏}‏ أي كائناً واقعاً ‏{‏ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً‏}‏ أي خضوعاً لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن‏.‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جنهم» أخرجه الترمذي والنسائي‏.‏ وزاد النسائي «في منخري مسلم أبداً» الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله يقول «عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» أخرجه الترمذي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده‏:‏ يا الله يا رحمن فقال أبو جهل‏:‏ إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية ومعناه أنهما اسمان لله تعالى فسموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم ‏{‏أيّاً ما تدعوا‏}‏ ما صلة ومعناه أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم، أو من جميع أسمائه ‏{‏فله الأسماء الحسنى‏}‏ يعني إذا حسنت أسماؤه كلها فهذان الاسمان منها ومعنى كونها حسنى أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم والتمجيد ‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه سلم‏:‏ ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلاً زاد في رواية وابتغ بين ذلك سبيلاً أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن وقيل نزلت الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة «ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها» قالت‏:‏ نزل ذلك في الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ كان أعراب من بني تميم إذا سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون بذلك فأنزل الله عز وجل «ولا تجهر بصلاتك أي لا ترفع صوتك بقراءتك ودعائك ولا تخافت بها» المخافتة خفض الصوت، والسكوت ‏{‏وابتغ‏}‏ أي اطلب ‏{‏بين ذلك سبيلاً‏}‏ أي طريقاً وسطاً بين الجهر والاخفاء‏.‏ عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر‏:‏ «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك فقال إني أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلاً وقال لعمر مررت بك، وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال‏:‏ أخفض قليلاً» أخرجه الترمذي ‏{‏وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا‏}‏ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته‏.‏ وقيل‏:‏ معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولداً وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده‏.‏ وقيل‏:‏ إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك، لم يكن مستحقاً للحمد والشكر وكذا قوله ‏{‏ولم يكن له ولي من الذل‏}‏ ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به ‏{‏وكبره تكبيراً‏}‏ أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي‏.‏

وقيل‏:‏ إذا كان منزهاً عن الولد والشريك والولي كان مستوجباً لجميع أنواع المحامد‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الكلام إلى الله لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت» أخرجه مسلم‏.‏ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب‏}‏ أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم ‏{‏ولم يجعل له عوجاً‏}‏ أي لم يجعل له شيئاً من العوج قط ولعوج في المعاني، كالعوج في الأعيان والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معاينة وقيل معناه لم يجعله مخلوقاً روي عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قرآناً عربياً غير ذي عوج‏}‏ قال غير مخلوق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 10‏]‏

‏{‏قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏قيماً‏}‏ أي مستقيماً وقال ابن عباس‏:‏ عدلاً، وقيل قيماً على الكتب كلّها مصدقاً لها وناسخاً لشرائعها ‏{‏لينذر بأساً شديداً‏}‏ معناه لينذر الذين كفروا بأساً شديداً وهو قوله سبحانه وتعالى بعذاب بئيس ‏{‏من لدنه‏}‏ أي من عنده ‏{‏ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً‏}‏ يعني الجنة ‏{‏ماكثين فيه‏}‏ أي مقيمين فيه ‏{‏أبداً وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ما لهم به من علم‏}‏ أي بالولد وباتخاذه يعني أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل مفرط‏.‏ فإن قلت اتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم‏.‏ قلت انتفاء العلم يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالاً لا يستقيم تعلق العلم به ‏{‏ولا لآبائهم‏}‏ أي ولا لأسلافهم من قبل ‏{‏كبرت‏}‏ أي عظمت ‏{‏كلمة تخرج من أفواههم‏}‏ أي هذا الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد ‏{‏إن يقولون إلا كذباً‏}‏ أي ما يقولون إلا كذباً قيل حقيقة الكذب أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر قولهم عنه وزاد بعضهم مع علم قائله أنه غير مطابق وهذا القيل باطل لأن الله سبحانه وتعالى وصف قولهم بإثبات الولد بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقولون ذلك ولا يعلمون كونه باطلاً فعلمنا أن كل خبر لا تطابق الخبر عنه فهو كذب والكذب خلاف الصدق، وقيل‏:‏ هو الانصراف عن الحق إلى الباطل ورجل كذاب وكذوب إذا كان كثير الكذب‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏فلعلك باخع نفسك‏}‏ أي قاتل نفسك ‏{‏على آثارهم‏}‏ أي من بعدهم ‏{‏إن لم يؤمنوا بهذا الحديث‏}‏ يعني القرآن ‏{‏أسفاً‏}‏ أي حزناً وقيل غيظاً ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏ أي مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، وقيل يعني النبات والشجر والأنهار، وقيل أراد به الرجال خاصة فهم زينة الأرض، وقيل أراد به العلماء والصلحاء وقيل جميع ما في الأرض هو زينة لها‏.‏ فإن قلت أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين‏.‏ قلت زينتها كونها تدل على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، وقيل إن جميع ما في الأرض ثلاثة معدن ونبات وحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان، قيل الأولى أن لا يدخل في هذه الزينة المكلف، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبلوهم‏}‏ فمن يبلو يجب أن لا يدخل في ذلك ومعنى لنبلوهم نختبرهم ‏{‏أيهم أحسن عملاً‏}‏ أي أصلح عملاً وقيل أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها‏.‏ ‏{‏وإنا لجاعلون ما عليها‏}‏ أي من الزينة، ‏{‏صعيداً جرزاً‏}‏ يعني مثل أرض لا نبات فيه شيء، قوله سبحانه وتعالى ‏{‏أم حسبت‏}‏ أي أظنتت يا محمد ‏{‏أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً‏}‏ أي هم عجب من آياتنا وقيل معناه أنهم ليسوا بأعجب آياتنا، فإن خلقنا من السموات والأرض وما فيهم من العجائب أعجب منهم والكهف الغر الواسع في الجبل، الرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم ثم وضع على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة، وعن ابن عباس أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقال كعب الأحبار‏:‏ هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف ثم ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف فقال عز وجل من قائل ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ أي صاروا إليه، وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى وهو الطري من الشباب ‏{‏فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة‏}‏ أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهب لنا الهداية والنصر والأمن من الأعداء ‏{‏وهيئ لنا‏}‏ أي أصلح لنا ‏{‏من أمرنا رشداً‏}‏ أي حتى نكون بسببه راشدين مهديين وقيل معناه واجعل أمرنا رشداً كله‏.‏

ذكر قصة الكهف وسبب خروجهم إليه‏:‏

قال محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار مرج أمر أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكون بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله‏.‏ فلما نزل مدينة أصحاب الكهف واسمها أفسوس استخفى منه أهل الإيمان وهربوا في كل وجه فاتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم بين القتل وبين عبادة الأصنام، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ويجعل ما قطع من أجسادهم على أسوار المدينة وأبوابها فلما عظمت الفتنة وكثرت ورأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء، وكانوا من أشراف الروم وهم ثمانية نفر وبكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وجعلوا يقولون‏:‏ ‏{‏ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً‏}‏ اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنه البلاء حتى يعلنوا عبادتك؛ فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلاهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجوداً يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل فقال لهم الشرط ما خلفكم عن أمر الملك، ثم انطلقوا إلى الملك فأخبروه خبر الفتية فبعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة، وجوههم بالتراب فقال لهم ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة أهل مدينتكم اختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم، فقال مكسلينا وهو أكبرهم‏:‏ إن لنا إلهاً ملء السموات والأرض عظمته لن ندعوا من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير من أنفسنا خالصاً أبداً، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً اصنع بنا ما بدا لك‏.‏

وقال أصحابه مثل ذلك فلما سمع الملك كلامهم أمر بنزع ثيابهم وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة وقال سأفرغ لكم وأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه فترجعون إلى عقولكم‏.‏ ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة أخرى قريبة منه لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا وخافوا إذا قدم أن يذكرهم، فأتمروا بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس، فيمكثوا فيه ويعبدوا الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فيصنع بهم ما يشاء فلما اتفقوا على ذلك عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم، وأتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فمكثوا فيه‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ مرو بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب‏:‏ ما تريدون مني لا تخشوا مني أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هربوا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم الكلب فخرجوا من البلد إلى الكهف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد ابتغاء لوجه الله عز وجل وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم اسمه تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة لبس ثياباً رثة كثياب المسلمين ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً، ويتجسس لهم الخبر هل ذلك هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا‏.‏ ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل فأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجداً يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة فقال لهم تمليخا‏:‏ يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع وذلك عند غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويذكر بعضهم بعضاً فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان من الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال‏:‏ أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا‏:‏ أما نحن لم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا إلى جبل يدعى ينجلوس فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يأمر بسد باب الكهف عليهم وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏.‏

فأمر دقيانوس بالكهف فسد عليهم وقال دعوهم كما هم في كهفهم يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله عز وجل أرواحهم وفاة نوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال‏.‏ ثم إن رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس واسم الآخر روناس اهتما أن يكتبا شأن هؤلاء الفتية، وأسمائهم وأنسابهم وأخبارهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان، وقالا‏:‏ لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه، وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك وقال عبيد بن عمير‏:‏ كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وكان معهم كلب صيد لهم، وكان أحدهم وزير الملك فقذف الله سبحانه وتعالى الإيمان في قلوبهم فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه وقال في نفسه أخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لئلا يصيبني عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره وجلس إليه من غير أن يظهره على أمره ثم خرج آخر فخرجوا جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا ليخرج كل فتيين فيخلوا ويفشي كل واحد سره إلى صاحبه ففعلوا ذلك فإذا هم جميعاً على الإيمان وإذا الكهف في جبل عظيم قريب منهم فقال بعضهم لبعض فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته‏.‏

فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيد فناموا ثلاثمائة سنين وازداد تسعاً، وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليه آثارهم وكهفهم فكتبوا أسمائهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان الملك ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكون لهؤلاء شأن وما ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدروس فلما ملك بقي ملكه ثماني وستين سنة، فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد‏.‏ وجعل بيدروس الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلق بابه عليه، ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه فدأب ليله ونهاره يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليهم‏.‏ ثم إن الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليم ليعلموا أن الساعة آتية فيها، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه ذلك الكهف وكان اسمه أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ويبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة وبينيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما كان على باب الكهف، وفتحا باب الكهف وحجبهم الله تعالى عن الناس بالرعب فلما فتح باب الكهف أذن الله سبحانه وتعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما اسيتقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون منها إذا أصبحوا من ليلتهم‏.‏

ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كما كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه وأنهم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخاً صاحب نفقتهم‏:‏ أنبئنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار، وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا‏:‏ قد التمستم في المدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا‏:‏ يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله، ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر فينا عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحداً، وابتع لنا طعاماً فأتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعاً، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع، فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منه ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصد عن الطريق تخوفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه، ولا يشعر أن دقيانوس وأهله هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة‏.‏ فملا أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة كانت لأهل الإيمان‏.‏ إذ كان أمر الإيمان ظاهراً فيهما فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها يميناً وشمالاً ثم ترك ذلك الباب ومضى إلى باب آخر فرأى مثل ذلك فخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى أشخاصاً كثيرة محدثين لم يكن رآهم من قبل ذلك، فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منهم فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول يا ليت شعري ما هذا أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة في هذه المدينة ويستخفون بها واليوم ظاهرة لعلي نائم حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي في أسواقها فسمع ناساً يحلفون باسم عيسى ابن مريم، فزاده ذلك تعجباً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة وهو يقول في نفسه والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس كان على الأرض من يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ابن مريم لا يخاف، ثم قال في نفسه‏:‏ لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له ما اسم هذه المدينة يا فتى فقل له أفسوس، فقال في نفسه لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج قبل أن يصيبني فيها شر فأهلك‏.‏

فمضى إلى الذين يبتاعون الطعام فأخرج لهم الورق التي كانت معه وأعطاها رجلاً منهم وقال له بعني بهذه الورق طعاماً، فأخذها الرجل ونظر ألى ضرب الورق ونقشها فعجب منها فناولها رجلاً آخر من أصحابه فنظر ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ويتشاورون بينهم، ويقول بعضهم لبعض‏:‏ إن هذا أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمن طويل فلما رآهم تمليخاً يتحدثون فيه فرق فرقاً شديداً وخاف وجعل يرعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس يأتونه وتعرفونه فلا يعرفونه فقال لهم وهو شديد الخوف منهم‏:‏ أفضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامك فلا حاجة لي به، فقالوا له يا فتى من أنت وما شأنك والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا انطلق معنا وأرناه وشاركنا فيه نخفف عليك ما وجدت، وإنك إن لم تفعل نحملك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال والله قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه، فقالوا له يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت وجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وخاف حتى لم يجر على لسانه إليهم شيء، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه وجعلوا يسحبونه في سكك المدينة حتى سمع به من فيها، وقيل قد أخذ رجل معه كنز فاجتمع عليه أهل المدينة وجعلوا ينظرون إليه ويقولون والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، وجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم، وكان متيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذا اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها، اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً، وهو يبكي والناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ثم رفع رأسه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علي اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل يقول في نفسه فرقوا بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتونني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا قد كنا تواثقنا على الإيمان بالله وأن لا نشرك به أحداً أبداً ولا نفترق في حياة ولا موت فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وطنطيوس ورأى أنه لم يذهب إلى دقيانوس، أفاق وذهب عنه البكاء وأخذ أريوس وطنطيوس الورقة ونظرا إليها وعجبا منها وقال أين الكنز الذي وجدت يا فتى فقال تمليخا‏:‏ ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أوقول لكم فقال له أحدهما‏:‏ ممن أنت فقال تمليخا أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة فقيل له‏:‏ ومن أبوك ومن يعرفك بها فأخبرهم بأسم أبيه، فلم يوجد من يعرفه ولا أباه فقال له أنت كذاب لا تنبئنا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول غير أنه نكث بصره إلى الأرض فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون، وقال بعضهم ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم، فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً أتظن إنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه المدينة وضربها ولهذه الورقة أكثر من ثلاث مائة سنة وأنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ شمط وحولك سراة هذه المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار، وإنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته‏.‏

فقال لهم تمليخا‏:‏ أخبروني عما أسألكم عنه فإن أنتم فعلتم صدقتكم عما عندي، فقالوا له سل لا نكتمك شيئاً قال‏:‏ فما فعل الملك دقيانوس فقال‏:‏ ما نعرف على وجه الأرض من اسمه دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك في الزمان الأول وله دهر طويل وهلك بعده قرون كثيرة، فقال تمليخا‏:‏ إني إذاً لحيران وما يصدقني أحد من الناس فيما أقول لقد كنا فتية على دين الواحد وأن الملك أكرهنا على عبادة الأصنام والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس، فأتينا إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس فنمنا فيه فلما انتهينا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا معكم كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فلما سمع أريوس قول تمليخا قال يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله عز وجل لكم على يد هذا الفتى فانطلقوا بنا معه حتى يرينا أصحابه‏.‏ فانطلق أريوس وطنطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه ظنوا أنه أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث بهم إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه‏.‏

فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذ هم بأريوس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليه الخبر كله، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمن الطويل وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها‏.‏ ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم فضة فوقف على الباب ودعا جماعة من عظماء أهل المدينة وأمر بفتح التابوت بحضرتهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومرطونس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوس وقالوس والكلب اسمه قطمير‏.‏ كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر الكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر بهم فلما قرأوه عجبوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية تدلهم على البعث ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجودهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجداً لله وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضاً وأخبرهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس ثم أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك للناس آية لتكون لهم نوراً وضياء وتصديقاً للبعث، وذلك أن فتية بعثهم الله وقد كان توفاهم منذ ثلاث مائة سنة وأكثر، فلما أتى الملك الخبر رجع عقله إليه وذهب همه وقال‏:‏ أحمدك اللهم رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني ولم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح بيدروس الملك ثم أخبر بذلك أهل مدينته فركب وركبوا معه حتى أتوا مدينة أفسوس، فتلقاهم أهلها وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية بيدروس فرح بهم وخرا ساجداً على وجهه وقام بيدروس الملك قدامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون لله ويحمدونه‏.‏ ثم قال الفتية لبيدروس الملك نستودعك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن‏.‏ فبينما الملك قائم إذا هم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم، فقام الملك إليهم وجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في منامه فقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه، فأمر الملك عند ذلك بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، ولم يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر الملك أن يتخذوا على باب الكهف مسجداً يصلى فيه وجعل لهم عيداً عظيماً وأمر أن يؤتى كل سنة‏.‏

وقيل إن تمليخا حمل إلى الملك الصالح فقال له الملك من أنت قال أنا رجل من أهل هذه المدينة، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وإن أسماءهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا اللوح ونظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا‏:‏ هم أصحابي فلما سمع الملك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا‏:‏ دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل تمليخا فبشرهم فقبض الله روحه وأرواحهم وأعمى على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فذلك قوله عز وجل ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ أي صاروا إلى الكهف واسمه خيرم ‏{‏فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة‏}‏ أي هداية في الدين ‏{‏وهيئ لنا‏}‏ أي يسر لنا ‏{‏من أمرنا رشداً‏}‏ أي ما نلتمس منه رضاك وما فيه رشدنا، وقال ابن عباس‏:‏ أي مخرجاً من الغار في سلامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فضربنا على أذانهم‏}‏ أي ألقينا عليهم النوم، وقيل منعنا نفوذ الأصواب إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه ‏{‏في الكهف سنين عدداً‏}‏ أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة ‏{‏ثم بعثناهم‏}‏ أي من نومهم ‏{‏لنعلم‏}‏ أي علم مشاهدة وذلك أن الله عز وجل لم يزل عالماً، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً ‏{‏أي الحزبين‏}‏ أي الطائفتين ‏{‏أحصى لما لبثوا أمداً‏}‏ أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياماً وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف‏.‏ قوله تعالى ‏{‏نحن نقص عليك نبأهم بالحق‏}‏ أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق ‏{‏إنهم فتية‏}‏ أي شبان ‏{‏آمنوا بربهم وزدناهم هدى‏}‏ أي إيماناً وبصيرة ‏{‏وربطنا على قلوبهم‏}‏ أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف ‏{‏إذ قاموا‏}‏ يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ‏{‏فقالوا‏}‏ أي الفتية ‏{‏ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً‏}‏ إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأصنام ‏{‏لقد قلنا إذاً شططاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني جوراً وقيل كذباً يعني إن دعونا غير الله ‏{‏هؤلاء قومنا‏}‏ يعني أهل بلدهم ‏{‏اتخذوا من دونه‏}‏ أي من دون الله ‏{‏آلهة‏}‏ يعني أصناماً يعبدونها ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ‏{‏يأتون عليهم‏}‏ أي على عبادة الأصنام ‏{‏بسلطان بين‏}‏ أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ أي وزعم أنه له شريكاً أو ولداً ثم قال بعضهم لبعض ‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏}‏ يعني قومكم ‏{‏وما يعبدون إلا الله‏}‏ وذلك أنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته ‏{‏فأووا إلى الكهف‏}‏ أي الجؤوا إليه ‏{‏ينشر لكم‏}‏ أي يبسط لكم ‏{‏ربكم من رحمته ويهيئ‏}‏ أي يسهل ‏{‏لكم من أمركم مرفقاً‏}‏ أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وترى الشمس إذا طلعت تزاور‏}‏ أي تميل وتعدل ‏{‏عن كهفهم ذات اليمين‏}‏ أي جانب اليمين ‏{‏وإذا غربت تقرضهم‏}‏ أي تتركهم وتعدل عنهم ‏{‏ذات الشمال وهم في فجوة منه‏}‏ أي متسع من الكهف ‏{‏ذلك من آيات الله‏}‏ أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها، ولكن اختار الله لهم مضجعاً في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات الله أي إن شأنهم وحديثهم من آيات الله ‏{‏من يهد الله فهو المهتد‏}‏ يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم ‏{‏ومن يضلل‏}‏ أي ومن يضلله الله ولم يرشده ‏{‏فلن تجد له ولياً‏}‏ أي معيناً ‏{‏مرشداً‏}‏ أي يرشده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وتحسبهم‏}‏ خطاب لكل أحد ‏{‏أيقاظاً‏}‏ أي منتبهين لأن أعينهم مفتحة ‏{‏وهم رقود‏}‏ أي نيام ‏{‏ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، قيل كانوا يقلبون في عاشوراء وقيل كانوا لهم في السنة تقلبتان ‏{‏وكلبهم باسط ذراعيه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان كلباً أغر وعنه أنه كان فوق القلطي ودون الكرزي‏.‏ والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل كان شديد الصفرة يضرب إلى حمرة، وقال ابن عباس‏:‏ كان اسمه قطمير وقيل ريان وقيل صهبان قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام ‏{‏بالوصيد‏}‏ أي فناء الكهف، وقيل عتبة الباب وكان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم، قيل كان ينقلب مع أصحابه فإذا انقلبوا ذات اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها، وإذا انقلبوا ذات الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها ‏{‏لو اطلعت عليهم‏}‏ يا محمد ‏{‏لوليت منهم فراراً‏}‏ وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم ‏{‏ولملئت منهم رعباً‏}‏ أي خوفاً من وحشة المكان‏.‏ وقيل لأن أعينهم مفتحة كالمتيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام وقيل لكثرة شعورهم، وطول أظافرهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار وقيل إن الله سبحانه وتعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية‏:‏ لو كشف الله عن هؤلاء لنظرنا إليهم، فقال ابن عباس‏:‏ قد منع ذلك من هو خير منك فقيل له لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً‏.‏ فبعث معاوية ناساً فقال اذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقهم‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ يعني كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان بعثناهم من النومة التي تشبه الموت ‏{‏ليتساءلوا بينهم‏}‏ أي ليسأل بعضهم بعضاً ‏{‏قال قائل منهم‏}‏ وهو رئيسهم وكبيرهم مكسلمينا ‏{‏كم لبثتم‏}‏ أي في نومكم وذلك، أنهم استنكروا طول نومهم وقيل إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك ‏{‏قالوا لبثنا يوماً‏}‏ ثم نظروا فوجدوا الشمس قد بقي منها بقية فقالوا ‏{‏أو بعض يوم‏}‏ فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظافرهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم ‏{‏قالوا ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ وقيل إن مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم ‏{‏فابعثوا أحدكم‏}‏ يعني تمليخا ‏{‏بورقكم‏}‏ هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ‏{‏هذه إلى المدينة‏}‏ قيل هي ترسوس وكان أسمها في الزمن الأول قبل الإسلام أفسوس ‏{‏فلينظر أيها أزكى طعاماً‏}‏ أي أحلى طعاماً وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن، ولا تكون من ذبح من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقيل أطيب طعاماً وأجود وقيل أكثر طعاماً وأرخصه ‏{‏فليأتكم برزق منه‏}‏ أي قوت وطعام تأكلونه ‏{‏وليتلطف‏}‏ أي وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان ‏{‏ولا يشعرن‏}‏ أي ولا يعلمن ‏{‏بكم أحداً‏}‏ أي من الناس ‏{‏إنهم إن يظهروا عليكم‏}‏ أي يعلموا بمكانكم ‏{‏يرجموكم‏}‏ قيل معناه يشتموكم ويؤذوكم بالقول وقيل يقتلوكم، وكان من عادتهم القتل بالحجارة وهو أخبت القتل وقيل يعذبكم ‏{‏أو يعيدوكم في ملتهم‏}‏ أي الكفر ‏{‏ولن تفلحوا إذاً أبداً‏}‏ أي إن عدتم إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم‏}‏ أي أطلعنا الناس عليهم ‏{‏ليعلموا أن وعد الله حق‏}‏ يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث ‏{‏وأن الساعة لا ريب فيها‏}‏ أي لا شك فيها أنها آتية ‏{‏إذ يتنازعون بينهم أمرهم‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في البنيان فقال المسلمون نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني بنياناً لأنهم على ملتنا وقيل كان يتنازعهم في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال قوم تبعث الأرواح فأراهم الله آية وأن البعث للأرواح والأجساد وقيل تنازعوا في مدة لبثهم وقيل في عددهم ‏{‏فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم‏}‏ يعني بيدروس وأصحابه ‏{‏لنتخذن عليهم مسجداً‏}‏ قوله تعالى ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم‏}‏ روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف عندهم فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم ‏{‏كلبهم ويقولون‏}‏ أي وقال العاقب وكان نسطورياً ‏{‏خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون‏}‏ وقال المسلمون ‏{‏سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل صلى الله عليه سلم بعدما حكى قول النصارى أولاً، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى رجماً بالغيب أي ظناً وحدساً من غير يقين ولم يقل ذلك في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن لحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن هو قول النصارى وأن يكون قول المسلمين مخالفاً لقول النصارى في كونه رجماً بالغيب وظناً، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى ‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل‏}‏ هذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أو من أخبره الله سبحانه وتعالى بذلك‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنا من أولئك القليل كانوا سبعة وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبينونس وسارينوس ودنوانس وكشفيططنونس وهو الراعي واسم كلبهم قطير ‏{‏فلا تمار فيهم‏}‏‏.‏

أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم ‏{‏إلا مراء ظاهراً‏}‏ أي إلا بظاهر ما قصصنا عليك فقف عنده ولا تزد عليه ‏{‏ولا تستفت فيهم‏}‏ أي في أصحاب الكهف ‏{‏منهم‏}‏ أي من أهل الكتاب ‏{‏أحداً‏}‏ أي لا ترجع إلى قول أحد منهم بعد أن أخبرناك قصتهم‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله‏}‏ يعني إذا عزمت على فعل شيء غداً فقل إن شاء الله ولا تقله بغير استثناء وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه سلم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال أخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياماً ثم نزلت هذه الآية وقد تقدمت القصة في سورة بني إسرائيل ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع، وإن كان بعد سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان، فإن بعد لم يصح ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام متصلاً بالاستنثاء وقيل في معنى الآية واذكر ربك إذا غضبت قال وهب مكتوب في التوراة والإنجيل ابن آدم «اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب»، وقيل الآية في الصلاة يدل عليه ما روي عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«من نسي صلاة فليصلها إذ ذكرها قال تعالى ‏{‏أقم الصلاة لذكري‏}‏» متفق عليه زاد مسلم أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ‏{‏وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً‏}‏ أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، وقيل إن الله سبحانه وتعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ويسأله أن يذكره أو يهديه لما هو خير له من أن يذكر ما نسي وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أن الله سبحانه وتعالى سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث أتاه من علم غيب المرسلين وقصصهم مما هو أوضح وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف‏.‏ وقيل هذا شيء أمره الله أن يقوله إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان قوله إن شاء الله فتوبته من ذلك أن يقول مع قوله إن شاء الله عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً‏}‏ قيل هذا خبر عن قول أهل الكتاب ولو كان خبراً من الله عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله أعلم بما لبثوا وجه ولكن الله رد قولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ والأصح أنه إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ويكون معنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا، يعني إن نازعوك في مدة لبثهم في الكهف فقل أنت الله أعلم بما لبثوا أي هو أعلم منكم وقد أخبر بمدة لبثهم وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنين فرد الله عليهم بذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله‏.‏ فإن قلت لم قال سنين ولم يقل سنة، قلت قيل لما نزل قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة‏}‏ فقالوا أياماً أو شهوراً أو سنين فنزلت سنين على وفق قولهم وقيل هو تفسير لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وازدادوا تسعاً وقيل قالت نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها‏.‏ فنزلت قل الله أعلم بما لبثوا‏.‏ وقيل إن عند أهل الكتاب لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية والتفاوت بين القمرية والشمسية في كل مائة سنة ثلاث سنين فتكون الثلاثمائة الشمسية ثلاث مائة وتسع سنين قمرية ‏{‏له غيب السموات والأرض‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها فإنه العالم وحده به فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف ‏{‏أبصر به وأسمع‏}‏ معناه ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع لا يغيب عن سمعه وبصره شيء يدرك البواطن كما يدرك الظواهر والقريب والبعيد والمحجوب وغيره لا تخفى عليه خافية ‏{‏ما لهم‏}‏ أي ما لأهل السموات والأرض ‏{‏من دونه‏}‏ أي من دون الله ‏{‏من ولي‏}‏ أي ناصر ‏{‏ولا يشرك في حكمه أحداً‏}‏ قيل معناه لا يشرك الله في علم غيبه أحداً وقيل في قضائه‏.‏ قوله تعالى ‏{‏واتل‏}‏ أي واقرأ يا محمد ‏{‏ما أوحي إليك من كتاب ربك‏}‏ يعني القرآن واتبع ما فيه واعمل به ‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ أي لا مغير للقرآن ولا يقدر أحد على التطرق إليه بتغيير أو تبديل‏.‏ فإن قلت موجب هذا أن لا يتطرق النسخ إليه‏.‏ قلت النسخ في الحقيقة ليس بتبدليل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً‏.‏ وقيل معناه لا مغير لما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه ‏{‏ولن تجد من دونه‏}‏ أي من دون الله إن لم تتبع القرآن ‏{‏ملتحداً‏}‏ أي ملجأ وحرزاً تعدل إليه‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وأصبر نفسك‏}‏ الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء ومنهم سلمان وعليه صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك أي احبس يا محمد نفسك ‏{‏مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ يعني طرفي النهار ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ أي يريدون وجه الله لا يريدون عرض الدنيا، وقيل نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم

«الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» ‏{‏ولا تعد‏}‏ أي لا تصرف ولا تجاوز ‏{‏عيناك عنهم‏}‏ إلى غيرهم ‏{‏تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏ أي تطلب مجالسه الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا ‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏}‏ أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا يعني عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف ‏{‏واتبع هواه‏}‏ أي في طلب الشهوات ‏{‏وكان أمره فرطاً‏}‏ ضياعاً ضيع أمره وعطل أيامه، وقيل ندماً وقيل سرفاً وباطلاً وقيل مخالفاً للحق ‏{‏وقل الحق من ربكم‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلى من ذلك شيء ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ وقيل معنى الآية وقل الحق من ربكم أي لست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً وإن آمنتم فلكم ما وصف الله لأهل طاعته، وعن ابن عباس في معنى الآية‏:‏ من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ‏{‏إنا أعتدنا‏}‏ أي هيأنا من العتاد وهو العدة ‏{‏للظالمين‏}‏ أي الكافرين ‏{‏ناراً أحاط بهم سرادقها‏}‏ السرادق الحجزة التي تطيف بالفساطيط عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قال سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة» أخرجه الترمذي قال ابن عباس‏:‏ هو حائط نار وقيل هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة وقيل هو دخان يحيط بالكفار ‏{‏وإن يستغيثوا‏}‏ أي من شدة العطش ‏{‏ثغاثوا بماء كالمهل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو ماء غليظ مثل دردي الزيت، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قوله سبحانه وتعالى بماء كالمهل قال‏:‏ «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه منه» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال رشدين أحد رواة الحديث قد تكلم بفيه من قبل حفظة الفروة جلدة الوجه وقيل المهل الدم والقيح وقيل هو الرصاص والصفر المذاب ‏{‏يشوي الوجوه‏}‏ أي ينضج الوجوه من حره ‏{‏بئس الشراب‏}‏ أي ذلك الذي يغاثون به ‏{‏وساءت‏}‏ أي النار ‏{‏مرتفقاً‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ منزلاً وقيل مجتمعاً وأصل المرتفق المتكأ وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا متكأ‏.‏